الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من لوازم الكفرِ الصدُّ عن سبيل الله :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع من سورة الحج ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ فالذين كفروا بالله ، وقد بيَّنت في دروسٍ سابقة أن الكفر تكذيبٌ وإعراض ، تكذيبٌ بآيات الله ، تكذيبٌ بآياته الكونية ، وتكذيبٌ بآياته القرآنية ، وتكذيبٌ بوعده ، وتكذيبٌ بوعيده ، وتكذيبٌ بأسمائه ، وتكذيبٌ بمنهجه ، تكذيبٌ وإعراض ، الذين كفروا أعرضوا عن الله عزَّ وجل ، والتفتوا إلى الدنيا ، التفتوا إلى الشركاء ، التفتوا إلى المال ، التفتوا إلى كل ما يقرِّبهم من الدنيا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ .. من لوازم الذين كفروا أنهم يصدّون عن سبيل الله ، فكفروا فعل ماض ، أما يصدون عن سبيل الله فهو فعلٌ مضارع ، والفعل المضارع يفيد الاستمرار ، هم دائماً يصدون عن سبيل الله ، أيُّ شيءٍ يؤدِّي إلى مرضاة الله يصدون الناس عنه ، أيُّ شيءٍ يقرِّب الناس من الله يصدونهم عنه ، أيُّ شيءٍ يوصلهم يقطعونهم عنه ، من لوازم الكفار أنهم يصدون عن سبيل الله ، هم ضالون مُضلون ، فاسدون مُفسدون ، هؤلاء الكفار يصدون عن سبيل الله ، أي شيءٍ يوصل إلى الله هم في هذا الطريق عقبةٌ كَؤود ، ربما كان دفع المال طريقاً إلى الله عزَّ وجل ، يمنعون الناس أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله ، ربما كانت الأعمال الصالحة التي يُبتَغى بها وجه الله طريقاً إلى الله عزَّ وجل ، هم يمنعون هذه الأعمال الصالحة ، ربما كان تعليم العِلم أو تلقِّي العِلم طريقاً إلى الله عزَّ وجل ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فنعوذ بالله أن نَصُدَّ الناس عن سبيل الله ، بل اللهم ارزقنا أن نكون هادين مهديين ، أن نهتدي ، ويُهتدى بنا ، أن نكون واصلين ، أن نكون مقرِّبين .
البيت الحرام مكان للعبادة والتقرب من الله :
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ، قال الله سبحانه وتعالى ..
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) ﴾
[ سورة آل عمران ]
أيْ الله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت مكاناً للتقرُّب إليه ، جعل هذا البيت مكاناً لعبادته ، جعل هذا البيت مكاناً للتفرُّغِ لعبادته ، فلذلك من حكمة الحج أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين أن يأتوا إليه مخلِّفين وراء ظهورهم بيوتهم ، وزوجاتهم ، وأولادهم ، وأموالهم ، وحوانيتهم ، ووظائفهم ، ومكانتهم ، ومتعهم ، ومباهجهم ، كل دنياهم مركزةٌ في بلادهم ، مِن أجل ألا تكون الدنيا عائقاً بين العبد وبين ربه ، من أجل ألا تكون الدنيا حجاباً بين العبد وبين ربه ، الله سبحانه وتعالى أمر الناس أن يأتوا إليه ، وهم في طريقهم إليه يقولون : لبيك اللهم لبيك ، أمرهم أن يبتعدوا عن الدنيا ، الشيء الذي أباحه لهم في بلادهم حرَّمه عليهم وهم قاصدون إليه ، حرم عليهم لبس الثياب المَخيطة ، جعلهم يذكرون ساعة النشر ، ساعة الحشر ، أراد أن يصرفهم عن الدنيا ، وربما كان اللباس من الدنيا ، أمرهم أن يرتدوا ثوبين رداءً وإزاراً ليس غير ، لئلا تلتفت النفس إلى الثوب ، وإلى مظهره ، وإلى أناقته ، وإلى ألوانه المُنسجمة ، ولئلا يختال الإنسان بثيابه ، الله سبحانه وتعالى جعل البيت الحرام مكاناً للإقبال عليه ، جعل البيت الحرام مكاناً للتوجُّه إليه ، جعل البيت الحرام تفرُّغاً لعبادته ، الناس يُصلّون في بلادهم ، ولكن قد يُصلّون وقد ينشغلون في صلاتهم عن الاتصال بربهم ، قد ينشغلون بدنياهم عن الالتجاء إلى الله عزَّ وجل ، لكنهم بالحج أمرهم أن يأتوا إليه ، ليدَعوا كل شيءٍ وراء ظهورهم ، أراد أن يعلِّمهم كيف أن هناك فِراقاً للدنيا لا رجعة بعده ، هذا الحج تدريبٌ على الفراق النهائي ، كيف أن الحاج يَنْخَلِعُ وينسلخ من كل ميزات الدنيا التي توفرها له مكانته ودخله في بلده ، فربنا سبحانه وتعالى جعل المسجد الحرام معطوفاً على سبيل الله .. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فكأن المسجد الحرام مكافئٌ لكلمة سبيل الله ، كما أن الأعمال الصالحة كلَّها ؛ طلب العلم ، تعليم العلم ، إنفاق المال ، أداء العبادات ، أداء الزكاة ، الصيام ، هذه كلها سُبلٌ إلى الله عزَّ وجل ، كذلك المسجد الحرام سبيلٌ إلى الله عزَّ وجل .
البيت الحرام للمسلمين جميعاً وليس لأهل بلدٍ بالذات :
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً﴾ .. أيُّ مكانٍ تذهب إليه لا تفارقك مشاعُر أنك في البلد الفلاني ، إذا ذهبت إلى بلد شرقي ، أو غربي ، أو عربي ، أو إسلامي ، دائماً هناك شعور مستمر أنك في هذا البلد ، لكنك إذا دخلت البيت الحرام لا تشعر أنك في السعودية ، تشعر أنك في بيت الله ، هذا المعنى مستفاد من قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ أي حق الغريبِ عنه كحقِّ المقيم فيه ، هو للناس جميعاً ، ليس لأهل مكة ، وليس لأهل المدينة ، وليس لمن يقيم في المملكة ، إنه للناس جميعاً ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ .. العاكف المُقيم ، والباد الذي جاء من البادية أو الذي جاء من مكانٍ بعيد ، يعبَّر عنه في كتب الفقه : بالآفاقي ، أيْ حق المسلم أينما كان ، من أي بلدٍ كان ، من أي مجتمعٍ كان ، في البيت الحرام كحقِّ ساكني مكة المكرَّمة سواءً بسواء ، أي هذا البيت للناس ، وليس لأهل بلدٍ بالذات ، ولا لأهل إقليمٍ ، ولا لأهل مصرٍ ، إنما هو للمسلمين جميعاً ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ .
حرمة البيت الحرام :
ربنا سبحانه وتعالى جلَّت مشيئته أراد أن يجعل هذا البيت الحرام ، وسماه حراماً لأنه يحرم فيه كل إيذاءٍ يقع على مخلوق ، هناك أشهُرٌ حُرُم ، وهناك أمكنةٌ حرم ، فالمسجد الحرام مكانٌ حرام لا يجوز فيه القتال ، ولا يجوز فيه الأخذ بالثأر ، ولا يجوز فيه العدوان ، ولا يجوز فيه قتل الصيد الذي هو مباحٌ في مكانٍ آخر ، وفي وقتٍ آخر ، أي الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأشهر الحرام وجعل البيت الحرام حَداً للخصومات ، كل من دخل هذا البيت فهو آمن ولو كان مهدور الدم ، إذا دخل البيت فهو آمن ، مكانٌ حرام وأشهرٌ حرام ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ هذا مكان عبادة ، مكان إقبال ، مكان تعبُّد ، مكان صفاء ، مكان بعد عن الدنيا ، عن أخبار الدنيا ، عن صراعات الدنيا ، عن مشكلات الدنيا ، عن أزمات الدنيا ، مكان عبادةٍ خالصة ، مكانٌ يُذَكِّر الناس باليوم الآخر ، يُذكّرهم بمنقلبهم إلى ربهم ، لذلك لا ينبغي أن تقوم فيه فتنة ، ولا ينبغي أن يجري فيه عدوان ، ولا ينبغي أن يقوم فيه اقتتال ، إنه شهرٌ حرام وبيتٌ حرام .
توعد الله مَن تسوّل له نفسه في البيت الحرام وفي الشهر الحرام الاعتداء على مخلوق :
والله سبحانه وتعالى يتوعَّد مَن تسوّل له نفسه في هذا البيت الحرام وفي الشهر الحرام أن يعتدي على مخلوق ، يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ﴾ .. في للظرفية المكانية .. ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ أي مَن ينوي .. ﴿فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ الإلحاد الانحراف عن جادة الصواب ، استقامت وجهته أو أَلْحَد .. ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ هذه الباء للملابسة ، أيْ إرادته منحرفة ، مَن يرد إرادةً متلبِّسَةً بالانحراف بسبب أنه ظلم نفسه أو ظلم مخلوقاً آخر ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ حتى إن بعض المفسرين فهموا من هذه الآية أن الخطيئة في البيت الحرام يعظمُ إثمها ، ويضاعف عقابها ، بحيث لو أن الإنسان أراد سيئةً ولم يفعلها حوسب عليها ، وهو في البيت الحرام لقوله تعالى : ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ وليس مَن يقترب ، ليس مَن يظلم ..﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ﴾ في هذا البيت ، وفي للظرفية المكانية والزمانية ، أيْ في البيت الحرام وفي الأشهر الحرام ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ أيْ متلبِّساً بانحرافٍ عن الطريق الصحيح .. ﴿بِظُلْمٍ﴾ بدافع من ظُلمه لنفسه أو ظلمه للآخرين ، هذا الذي يفعل إثماً ، أو يقتل حيواناً ، أو يؤذي إنساناً ، أو يقلع نبتةً ، أو يشتم مخلوقاً ، أو يفسُق ، أو يفجر ، في هذا البيت الحرام ؛ مَن أراد هذه المعاصي .. ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ في الدنيا والآخرة ، لأن ربنا عزَّ وجل جعل هذا البيت مكاناً للعبادة والنسك ، فأيّ عملٍ مُخِلٍّ بهذه العبادة وبالطمأنينة التي يجب أن تتوافر للحاج في هذا المكان هذا إفسادٌ في الأرض ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ لذلك العرب كانوا لو أن حرباً ضَروساً نشبت بين فئتين ، وجاءت الأشهر الحرم انتهى كل شيء ، لو أن أحد الخَصْمَين دخل الحرم فهو آمن ، الله سبحانه وتعالى جعل البيت الحرام ، وجعل الأشهر الحرام رحمةً للناس ، حَدَّاً لنزاعاتهم ، وإيقافاً لخصوماتهم ، وإنهاءً لمشكلاتهم .
بيت الله الحرام أول بيت وضع للناس لعبادة الله :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ .. يقول ربنا عزَّ وجل في آيةٍ أخرى : ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ هذه الآية دليلٌ قطعي على أن أول بيتٍ أنشئ على وجه الأرض لعبادة الله سبحانه وتعالى هو البيت الحرام في مكة المكرَّمة ، لكن ربما كُلِّفَ هذا النبي العظيم سيدنا إبراهيم بإعادة إنشاء البيت ، أَّما هذا البيت فلابدَّ من أنه وُضع منذ عهد آدم ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ وبعض علماء الجغرافية يرون أن الكعبة المشرفة تقع في الوسط الهندسي تماماً للقارَّات الخمس ، أي إذا أخذنا أطراف القارات الخمس ، ووصلنا بين أطرافها بأقطار تأتي الكعبة المشرَّفة في مركز تقاطع هذه الأقطار ، بيتٌ متوسِّط ، وربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعله في وادٍ غير ذي زرع لئلا يأتيه إلا الحاج ، فلو كان في وادٍ ذي زرعٍ ، وجوٍّ لطيف ، وبحيراتٍ رائعة ، وجبالٍ خضراء لجاءه الحاج والسائح ، لكنه بهذه الطريقة لا يقصده إلا الحاج ، الحاج وحده ، ومع أن هناك حراً شديداً ، ومع أن هناك ازدحاماً بالغاً ، فإن الذي ذهب إليه بإخلاصٍ شديد ، يقول لك : لم أذق في حياتي نعيماً وسعادةً أبلغ من هذا الحج ، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى ، كأنه هناك تجلّ من الله مكثف لهؤلاء الحجاج الأطهار ، الحجاج والعمار وفد الله ، إذا ذهب الإنسان إلى بيت من بيوت الله في بلده :
(( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عُمّارُها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر . ))
[ الحديث ضعيف بهذا اللفظ كما قال الزيلعي والعراقي ]
إذا كان إكرامك من قبل الله عزَّ وجل حق عليه إذا أتيته لبيته في بلدك ، فكيف إذا أتيته في البيت الحرام ؟ شتَّان ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : عن أبي سعيد الخدري :
(( سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ - وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً- قَالَ : أَرْبَعٌ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -أَوْ قَالَ : يُحَدِّثُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي- : أَلَّا تُسَافِرَ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ ، وَلا صَوْمَ يَوْمَيْنِ : الفِطْرِ وَالأَضْحَى ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ صَلاتَيْنِ : بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَلا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى . ))
[ صحيح البخاري ]
لها مكانة خاصة ، ويبدو أن الله سبحانه وتعالى جعلها موطناً للتجلِّي الذي يَنْعُمُ به الحجَّاج والعُمَّار .
البيت الحرام بيت أقيم على التوحيد والعبادة :
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ﴾ أي حددنا مكان هذا البيت ، وجعلناه مرجعاً إليه .. ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾ أيْ هذا البيت أقيم على التوحيد ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد .
﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ .. بعضهم قال : الطائفون الذين يطوفون حول البيت . وأما : ﴿وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ .. المصلون ، وهناك من يستنبط من هذه الآية أن الطواف يسبق القِيام ، والقيام يسبق الركوع ، والركوع يسبق السجود ، وكأنها مراتب ، طاف ، فأقام ، فركع ، فسجد ، أي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، الركوع خضوع ، والسجود طلب العون ، والقيام الالتزام ، والطواف هو البحث ، طاف باحثاً ، ثم عكف واقفاً ، ثم ركع ثم سجد ، طهِّرا بيتي من الشرك ومن القَذَر ومن كل شيء ، وهؤلاء الذين شرَّفهم الله عزَّ وجل لخدمة مساجده وبيوته هؤلاء تنطبق عليهم هذه الآية ، ليست خدمة بيوت الله وظيفة ، وظيفة يتقاضى الإنسان راتبها ، إنها شرفٌ تشرِّف الإنسان ، لذلك من هُم تواقوَّن لخدمة بيوت الله عزَّ وجل فهؤلاء لابدَّ من أن تشملهم هذه الآية : ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ .. أيْ ادعُهم إلى الحج ، حيثما انتهيت من بناء البيت وتجديده أذِّن في الناس بالحج .
الأجر على قدر المشقة :
﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ .. والذين قالوا : الثواب على قدر المشقَّة لم يخطئوا ، كلَّما قلَّت المشقَّة ، وصار السفر متعةً ، والطائرة مكيفةً ، والصالات كلها مكيَّفة ، والخيام مكيفة في عرفات ، والطعام لذيذاً ، والتنقُّل ممتعاً ، قَلَّ الأجر ، أصبح الحج متعةً ، لذلك كان السلف الصالح يأتون راجلين ، وبعضهم يأتون راكبين ، ولكن لا ينبغي للحاج اليوم أن يذهب ماشياً ولا راكباً ناقةً ، لأن الجهد ليس مطلوباً لذاته ، أما إذا كان الجهد عاماً ، المشقة إن كانت عامةً فالله سبحانه وتعالى يثيب عليها على قدر المشقة ، ولكن الآن أصبح الانتقال لا خيار فيه ، لابدَّ من ركوب الطائرة ، ولابدَّ من التنقُّل بين مكة وعرفات ، وبين مكة والمدينة بوسائل الركوب المعروفة ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ يأتوك رجالاً وراكبين ، رجالاً مترجِّلين ، ويأتوك راكبين .. ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أيْ هذه الناقة أصبحت ضامرة لشدة المشقَّة وبعد المسافة .. ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ طبعاً نحن حينما نذهب إلى الحج المسافة بيننا وبين الحرم تُعَدُّ قريبةً نسبياً ، أما الذين يأتون من باكستان ، من الهند ، من الصين ، من أمريكا ، من أوروبا فهذه مسافاتٌ طويلة ، ركوب الطائرة يستغرق عشرات الساعات ، وإنفاق مئات الألوف ..﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ لذلك النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ، تماماً بتمام .
منــافع الحـج روحية ومعنوية :
﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ .. أي لا يُعقل أن يدعوك الله سبحانه وتعالى وأنت في بلدك ، يدعوك لترك أهلك ، وعملك ، ودكَّانك ، ووظيفتك ، وأولادك ، وتأتي إليه ، ولا تجد شيئاً ، هذا مستحيل ، مستحيل في حق الله عزَّ وجل ، مستحيل في حقِّ الضيافة أن تأتيه من مكانٍ بعيد ولا يكرمك ، لذلك : ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ وعلامة الحاج الصادق أنه يتمنَّى أن يحج كل عام ، علامة الحاج الذي أقبل على الله ، وتجلى الله على قلبه ، أنه يتمنى أن تكون أيامه كلها حجاً ، فلذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ والمفسرون قالوا في تفسير هذه الآية : " منافع روحية ، ومنافع دنيوية " ، إضافةً إلى أن الحج عبادة راقية ، والإنسان في الحج يقبل على الله عزَّ وجل ، ويعاهده على الطاعة ، ويتوب إليه ، ويتعرف إليه ، ويتشرف قلبه بالإقبال عليه ، إضافةً إلى كل هذا فإن في الحج منافع ، ربما يلتقي المسلمون من شتى أقطارهم ، ربما يتعرَّف بعضهم على بعض ، ربما يبحثون قضيةً عامة ، ربما يتشجَّع الإنسان ليكون مثل هؤلاء ، ربما يكون التنافُس بينهم ، هناك منافع روحية ، ومنافع دنيوية تكون في الحج .
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾
[ سورة البقرة ]
فالحاج يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الأيام المعلومات ، كلما صعد شَرَفاً أو هبط وادياً ، أو استيقظ ، أو نام ، أو التقى بركبان ، يقول : "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، هذه التلبية فيها استجابة لدعوة الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ فإذا رمى جمرة العقبة قطع التلبية وقال : " الله أكبر ، الله أكبر " ، بدأ يكبِّر ويهلل ويسبح ، الحج كله ذكر ، الحج كله دعاء ، الحج كله صلاة ، الحج كله إقبال ، الحج كله اتصال ، الحج مناسبةٌ كي يتصل هذا العبد بخالقه اتصالاً محكماً ، مكثفاً ، مجدياً ، صحيحاً .
تذليل الأنعام للبشر آية تدل على كرم الله عز وجل :
﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ .. هذه الأنعام من آيات الله عزَّ وجل ، الأنعام تعني الإبل والبقر والغنم بما فيه الماعز ، هذه الحيوانات التي جعلها الله آيةً على كرمه .
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾
[ سورة يس ]
لو أن الله سبحانه وتعالى رَكَّبَ في هذه الأنعام أخلاق الضباع ، أو أخلاق الذئاب ، أو أخلاق الوحوش الكاسرة ، أو أخلاق السباع ، كيف نستفيد منها ؟ كيف نربِّيها ؟ كيف نكثِّرها ؟ كيف نذبحها ؟ كيف نتِّقي شرها ؟ إنها وديعة ، الغنم والماعز والبقر والجمل ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) ﴾
[ سورة الغاشية ]
هناك بحوث عن الجمل يكاد العقل لا يصدقها ، الله سبحانه وتعالى خلق الجمل خِصِّيصاً للصحراء ، له عينان تُريانه الصغير كبيراً - أي كالمجهر - والبعيد قريباً - تلسكوب - ولعينيه رموش بإمكانه أن يُغمض عينيه وأن يرى طريقه لئلا يؤذيه غبار الصحراء ، له أجفان يرى من خلالها ، ولا تتأثر بغُبار الصحراء ، بإمكان الجمل أن يَسُدَّ أذنيه ، الجمل له ثفينات ، يجلس جلسةً نظامية كي يسهل تحميله ، لو جلس كالحمار على جنبه كيف نُحَمِّل الجمل ؟ إنه يجلس بشكلٍ نظامي ، يحمله صاحبه وهو قاعد ، ثم يقف ، مَن هَيَّأ له هذا السنام الذي يجزئُهُ عن تناول الغذاء أشهراً ؟ الجمل بإمكانه أن يعيش بلا ماء ما يزيد عن عدة أشهر ، بإمكان الجمل أن يمتَّص من ماء خلاياه ، الجمل يصبر ، له هذه الأخفاف التي تعينه على السير في الرمال ، لو حدثتكم عن الجمل هناك بحوثٌ طريفةٌ جداً وعميقة وغزيرة لا يتسع الوقت لذكرها جميعاً ، فهذه سُمِّيَتْ أنعاماً لأنها نعمةٌ كبرى من الله عزَّ وجل .
والغنم كذلك نأكل لحومها ، ودهنها ، وشحمها ، ونستفيد من عَظمها ، ونستفيد من صوفها ، ومن جلدها ، ومن ألبانها ، ومن أمعائها ، كل شيءٍ في الغَنَمِ خير ، هذه نعم الله سبحانه وتعالى ، الألبان ، مشتقات الألبان تعرفونها جميعاً ، لا تجد بيتًا في الأرض إلا وفيه مشتقَّات الألبان ، هذه آيةٌ عظمى على نِعَمِ الله عزَ وجل ، ﴿ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾ من جعلها مذللةٌ ؟ أبإمكان الطفل الصغير أن يقود الجمل الكبير لولا أنه مذلل ؟ لو لم يكن مذللاً لخاف منه الرجل فكيف بالطفل ؟
الهدي في الحج الأكل منها والتصدق على الفقراء :
﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ .. كلوا من هذا الهَدْي ، لذلك أجاز العلماء أن يأكل الحاج من هَدْيِهِ ، وكلكم يعلم أن هناك حاجاً مفرداً ، وحاجاً متمتِّعاً ، وحاجاً قارناً ، فالحاج المفرد لا دم عليه ، لا هدي عليه ، أما المتمتِّع والقارن فعليهما الهدي ، هدي المتمتع هدي جَبرٍ ، وهدي القارن هدي شكرٍ ، لأن الله أعانه ووصل العمرة بالحج فعليه هديُ شكرٍ ، أما المتمتع فعليه هدي جبرٍ ، لأنه اعتمر ، ثم تحلل ، ثم أحرم من مكة قُبَيْلَ الحج ، عليه دم جبرٍ ، أجاز العلماء أن يأكل الحاج نَدْبَاً أو وجوباً أو إباحةً من لحم الهدي ، وأن يُطعِم منه القانع والمُعْتَر ، لكنهم حرَّموا على من قدَّم الهدي نذراً أو جزاءَ إثمٍ ارتكبه في الحج ، هذا الهدي الذي يقدَّم جزاءً وكفارةً لإثمٍ ارتكبه الحاج ، أو وفاءً بنذرٍ لا ينبغي أن يأكل الحاج منه شيئاً ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ هذا أمر ندب أو أمر إباحة ، هناك أمر يقتضي الوجوب ، وهناك أمر إباحة ، ثم ..
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾
[ سورة البقرة ]
هذا أمر إباحة ، ليس معناه أنه إذا لم يأكل الرجلُ يكون قد عصى ، عندنا أمر إباحة ، وعندنا أمر ندب ، وعندنا أمر وجوب ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ .
ما ينبغي على الحاج أن يفعله بعد ذبح الهدي لله عز وجل :
بعد أن رمى الحاج جمرة العقبة وذبح الهدي .. ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ .. التَفَثْ ، الإنسان حينما يقصُّ أظافره يقضي تفثه ، وحينما يحلق شعر رأسه يقضي تفثه ، وحينما يغتسل فيُذهب عن جلده الأوساخ يقضي تفثه ، طبعاً بعد أن أحرموا في اليوم الثامن من ذي الحجة ، أو بعد أن أحرموا من العمرة إلى الحج للقارن ، واستمروا على إحرامهم أياماً ولياليَ لا يمسَّون طيباً ، ولا يحلقون رأساً ، ولا يلبسون مخيطاً ، ولا يستعملون طيباً ، بعد أن أحرموا ، وتحمَّلوا مشاقَّ الإحرام ، الآن جاء وقت قضاء التَفَث ، قال تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ حَمَّلَ بعض العلماء هذه الآية على أن الحاج وهو في عرفات ، أو وهو يطوف البيت ، أو وهو يقبِّل الحجر ، أو وهو يسعى بين الصفا والمروة ، يعاهدُ الله على أعمالٍ صالحة ، على خدمة الخَلق ، على هداية الخلق ، على الاستقامة على أمر الله ، هذا العهد الذي عاهدت الله به ، بعد أن تحللت من الإحرام جاء وقت الوفاء به ..﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ الحاج كأنه عاهد الله سبحانه وتعالى ، وهو في عرفات عاهد الله ، وهو يقبِّل الحجر الأسود عاهد الله ، وهو يلتزم المُلتزم عاهد الله ، وهو يسعى بين الصفا والمروة عاهد الله ، وهو يطوف حول البيت يعاهد الله سبحانه وتعالى ، فإذا حَلَّ من إحرامه ، وقضى تفثه عليه أن يفي بنذره .
أحد الصالحين اشترى قبراً في حياته ، كان كل يوم خميس يضَّطجع فيه حياً ، ويتلو قوله تعالى :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
[ سورة المؤمنون ]
فيقول لنفسه : قومي قد أرجعناكِ ، قومي إلى العمل الصالح قد أرجعناكِ ، وكأن لسان حال الحاج ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ بعد أن يرموا جمرة العقبة ، وبعد أن يذبحوا الهدي ، ويحلقوا شعورهم ، ويغتسلوا يتحللون التحلُّل الأول ، أي بإمكانهم أن يفعلوا كل شيء كان محظوراً عليهم إلا النساء ، هذا التحلُّل الأول ، فإذا طافوا طواف الركن ، طواف الركن : أي طواف الإفاضة ، حلَّ لهم كل شيء كان محظوراً عليهم بما فيه النساء .
الطواف بالبيت العتيق :
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ .. إذا قلت : كَسَّر غير كَسَرَ ، وغَلَقَ غير غلَّق ، وقَطَعَ غير قَطَّع ، قطَّع فيه مبالغة ، قطعتُ اللحم قطعتين ، أما قطَّعتها قطعاً صغيرة ، فوزن فَعَّلَ يفيد التكثير ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ أي وليطوفوا كثيراً ، فهم النبي عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى : ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ أن الطواف سبعة أشواط ، الحد الأدنى سبعة أشواط ، لكن الطواف الواجب دائماً أربعة أشواط ، والسنَّةُ سبعة أشواط ، أي من طاف أربعة أشواطٍ وأصابه إغماءٌ فرضاً فقد أدَّى الفريضة ، طواف الزيارة ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ وسمّي البيت العتيق عتيقاً لأنه أقدم بيت ، وسمّي البيت العتيق عتيقاً لأن الله كرَّمه من أن يخضع لجبَّار ، لذلك كل أنواع الغزو التي شهدها العالم الإسلامي لم تصل إلى الكعبة ، جعله الله عتيقاً .
والمعنى الثالث أن كل من دخل هذا البيت مخلصاً أعتقه الله من النار ، إما لأنه عَتِيقٌ زماناً ، أو لأنه في مَنْجَاةٍ من سيطرة الجبابرة ، أو لأن كل من دخله أعتقه الله من النار ، لأن : مَن حج كما قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :
(( سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ : مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ ، ولَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ . ))
[ صحيح البخاري ]
لذلك قال العلماء : من أفاض من عرفات ولم يغلِب على ظنِّه أن الله قد غفر له فلا حج له ، تفعل ماذا ؟ جئت من بلدك مِن بُعْدٍ يزيد عن عشرات الآلاف مِن الكيلومترات ، دفعت الرسوم ، دفعت النفقات ، أغلقت محلَّك التجاري ، تركت أهلك ، لماذا جئت ؟ ألم تأت للمغفرة ؟ تفعل ماذا هناك ؟ مَن أفاض مِن عرفات ولم يغلب على ظنِّه أن الله قد غفر له فلا حج له .
تعظيم حرمات الله تعالى دليل على التقوى :
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ .. أي هذه المناسك الذي يعظمها ، هناك حاج يتساهل ، يقول لك : لا تدقق ، هذا لا يعظِّم شعائر الله ، لديك أشياء مباحة في بلدك ، الطيب مباح ، بالعكس مندوب ، وكما ورد :
(( حُبِّبَ إليَّ مِن دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصَّلاةِ . ))
[ ابن باز : التعليقات البازية على زاد المعاد ]
فالطيب مباح في بلدك ، ولكن الله سبحانه وتعالى هناك أراد أن يتعبَّدك ، أن يمتحن مدى طاعتك له ، والطاعة دائماً تُمْتَحَن لا في المعاصي والآثام بل في المُباحات ، حينما تَنهى ابنك عن أن يسرق فلابدَّ من أن يلتزم ، أما حينما تنهاه أن يأكل طعامه الذي جُعِلَ له ، ويستجيب لك فهذه منتهى الطاعة ، فربنا عزَّ وجل نهانا عن أشياء مباحة لنا ونحن في بلدنا ، مباح أن تلبس ثوباً مخيطاً ، مباح أن تغتسل بصابون مُعطَّر ، مباح أن تأخذ من الطيب ، مباح أن تحلق رأسك ، فربنا عزَّ وجل أراد أن يمتحن عبوديَّتك امتحاناً صارماً ، أي المعاصي والآثام شيء بديهي ، تركها من باب أولى ، لما ربنا عزَّ وجل يأمرك أن تترك المباح فترك المعصية من باب أَوْلَى ، فإذا كان لبس المخيط حرام ، النظر للنساء أشد حُرْمَةً ، إذا كان استعمال الطيب حرام فالكذب أشد حرمةً ، ربنا عزَّ وجل جعل المباحات محرمة هناك ليكون ترك المحرَّمات من باب أوْلى ، شيء بديهي جداً أن تكون بعيداً عن كل إثمٍ أو معصية ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ الحُرْمَة الشيء الذي لا يجوز أن تناله ، شيءٌ محرم .
الأنعام كلها حلال إلا ما استثني مع النهي عن فعل الجاهلية :
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ .. طبعاً الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، هذه كلها ذكرها الله عزَّ وجل في أماكن أخرى من كتاب الله ، لكن بعض المفسرين يقولون : إلا ما يتلى عليكم هنا السياق والسباق واللحاق يقتضي أن ذبح الأنعام في البيت الحرام كما كان شائعاً في الجاهلية ، كان ذبحاً على الأصنام ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول بعدها : ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ .. أيْ اجتنبوا الرجس الذي يصيبكم من عبادة الأوثان ، لأنكم إذا عبدتم الأوثان فهو رجسٌ أي نجسٌ ، والنجس مستقْبَح ، ربنا عزَّ وجل في آية أخرى يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) ﴾
[ سورة التوبة ]
لم يقل الله عزَّ وجل : نجسون ، بل قال : ﴿ نَجَسٌ ﴾ لأن النجِس يطْهُر ، نَجِس على وزن فَعِل ، أما النَّجَس هو عين النجاسة ، فلذلك الوثن الصنم إذا عبدته فهو نجِس ، نجاسة بمعنى أنك إذا عبدته انقطعت عن الله عزَّ وجل ، هذا الصنم أصم وأبكم ، لا ينطق ، ولا يسمع ، ولا يستجيب ، وليس معك ، وليس في إمكانه أن يتجلَّى على قلبك ، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى في سياق هذه الآيات يتبين أنه لا يجوز للإنسان أن يذبح هدياً إلا ابتغاء مرضاة الله ، وهذه الآية فيها نهيٌ عن فعل الجاهلية .
الأمر باجتناب قول الزور :
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ .. هذه الآية يستنبط منها أن الباطل لا يجوز أن تمارسه ، ولا يجوز أن تتحدَّث عنه ، لأن الحديث عن الوثن وعن الصنم فهو حديثٌ كاذب ، فهو يقول زور ، فلا ينبغي أن تعبد الوثَنْ ، ولا أن تشيد به ، ولا أن تتحدث عنه ، عندنا قاعدة أصولية : ما حَرُم فعله حَرُم استماعه ، وحرم النظر إليه ، وحرم الحديث عنه .. فهذه الأوثان التي كانت تُعْبَدُ من دون الله في الجاهلية لا يجوز أن تعبد ، عبادتها نجاسةٌ قطعية ، والحديث عنها كذلك ، لذلك : ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ لأن قول الزور قولٌ كاذب ، والحديث عن الأوثان حديثٌ كاذب غير صحيح ، لا تقدِّم ولا تؤخِّر.
على الحجاج أن يكونوا حنفاء لله عز وجل :
ويجب أن يكون الحُجَّاجُ حنفاء لله ، الأحنف هو المائل ، الأحنف بن قيس سمّي " أحنف " لأنه كان به مَيْل ، إذا سار يميل على أحد رجليه ، أما الأحنف فهو المؤمن الأحنف أي المائل لله عزَّ وجل ، أيْ كله متجه إلى الله عزَّ وجل ، إمكاناته ، تفكيره ، مشاعره ، عقله ، ذِكْرُهُ ، حديثه ، طاقاته ، نشاطه ، كله في سبيل الله ، حنيف أيْ مائل ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ .. أحياناً يقول لك الإنسان : ساعة لك ، وساعة لربك ، هذا شرك ، الوقت كله لله ، لكن ربنا عزَّ وجل أمرك أن تأخذ حظاً من الراحة ، أمرك أن تجلس مع أهلك ، أمرك أن تجلس مع أولادك ، ولكن حنفاء لله ، القلب معلَّق بالله عزَّ وجل .
عاقبة الشرك والمشركين :
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ .. مَن يتخذ غير الله شريكاً ، مَن يتوجَّه لغير الله ، من يطمح لغير الله ، من يطمئن لغير الله ، من يطيع غير الله ، من يركن لغير الله ، من يعتمد على غير الله ، من يرضى بغير الله ، هذا شرك ، عن شداد بن أوس :
(( إنَّ أخوفَ ما أتخوَّفُ على أمَّتي ، الإشراكُ باللَّهِ ، أما إنِّي لستُ أقولُ يعبدونَ شمسًا ، ولاَ قمرًا ، ولاَ وثنًا ، ولَكن أعمالاً لغيرِ اللهِ ، وشَهوةً خفيَّةً. ))
[ ضعيف ابن ماجه : حكم المحدث : ضعيف ]
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ صورةٌ رائعة ، المشرك كأنه سقط من السماء ، الآن لو أنَّ إنساناً يركب طائرة ، وهذه الطائرة تطير على ارتفاع أربعين ألف قدم ، وفجأةً فُتِحَ الباب الذي إلى جانبه وسقط ، انتهى ، هذا مثل مبسَّط لمن يشرك ..﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ يصبح طعاماً في حويصلاتها ..﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ .. أي:
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ﴾
[ سورة لقمان ]
وإن الأديان السماوية كلها تدعو إلى التوحيد ..
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾
[ سورة الأنبياء ]
من التقوى تعظيم شعائر الله :
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ .. الشعائر جمع شعيرة ، والشعيرة العلامة الدالة على منسك أو على عبادة ، فالكعبة مِن شعائر الله ، والبيت الحرام من شعائر الله ، والحرم المكي بكامله مع حدوده من شعائر الله ، المُصحف من شعائر الله ، المسجد من شعائر الله ، المؤمن من شعائر الله ، من يتزيَّا بزي أهل العلم فهذا من شعائر الله ، ينبغي أن تحترمه ، ينبغي أن تجلَّه ، إكراماً لهذا الزي الذي يرتديه ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ أي الأدب مع الله هو أدب مع رسوله ، هو أدب مع بيته ، أدب مع كتابه ، أدب مع مَن يدلُّه على الله عزَّ وجل ، الأدب واحد يظهر بأشكال متباينة .
الهدي منفعة للحاج خالصة لله :
﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ .. هذا الهدي الذي يسوقه الحاج معه ، المتمتع ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي لك أن تركبها ، ولك أن تحلبها ، ولك أن تستعين بها .. ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا – في النهاية - إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ في النهاية تُنْحَر ، ويقدم لحمها طعاماً للفقراء ، أي يجوز من خلال هذه الآية أن تركب الهدي ، وأن تستفيد من لبنه ، ومن صوفه ، ومن وبره .. ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ لذلك حينما كان الحجاج يذبحون الخراف سابقاً ، ويلقونها في الطريق لتنتفخ بعد ساعات ، وتملأ الجو كلها رائحةً نتنة ، هذا ليس من فعل المسلم ، هذا ليس منسكاً ، ليس القصد أن تذبح الغنم ، أن تتلف هذا اللحم ، أن تهدر هذه المواد الأساسية في حياتك ، القصد أن يصل هذا اللحم إلى بطون الفقراء ، هذا القصد ، لذلك تفقَّهوا قبل أن تحجوا ، حدثني صديق قبل سنوات .. قبل أن يُمنع الذبح ، الآن يتم الذبح في المسلخ .. قبل أن يمنع الذبح كان الحاج يشتري هذه الغنمة بمئات الريالات ، ويذبحها ، ويمشي ، فإذا نظر إلى هذا المَنسك إنسان أهذا هو الإسلام ؟ أهذا هو الدين ؟ هل يأمركم الله عزَّ وجل أن تذبحوا هذه الخراف لتصبح جِيَفَاً ؟ أهذا هو الدين ؟ لا والله ، يجب أن تنتهي هذه الأغنام ، هذه الذبائح إلى أجواف الفقراء ، إلى بطونهم.
صفات من أضمر الحب لله عز وجل :
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ أيْ الله عزَّ وجل جعل مناسك ، أي جعل وسائل تتقرب بها إليه ، من هذه الوسائل أن تذبح الأضاحي تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل ، المنسك هو العبادة ، وهنا العبادة المتعلِّقة بذبح الهدي ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ .. الذين أضمروا الحب لله عزَّ وجل ..﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الإسلام نصفه محبَّة ، مكان المحبة في الإسلام كمكان الروح من الجسد ، فالإسلام من دون محبة جسدٌ بلا روح ، فالمؤمنون ..﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ اضطربت قلوبهم ، هَطَلَت دموعهم ، اقشعرَّ جلدهم ، اضطربوا ، تأثروا ..﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ .. المؤمن صابر يرى أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، ويرى أن حكمته بالغة ، وأن الله سبحانه وتعالى كل أفعالِهِ خير .
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ﴾
[ سورة آل عمران ]
﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ﴾ أي الصلاة تحتاج إلى جهد كبير كي يقيمها الإنسان ، تحتاج إلى استقامة ، تحتاج إلى أن تعرف الله ، يجب أن تعرف مَن تقف بين يديه ، تحتاج إلى عمل صالح كي ترقى به إليه ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ كل إنسان مُحاسب على ما رزقه الله عزَّ وجل ، فمن آتاه الله العلم عليه أن ينفق من علمه ، والذي أتاه الله المال عليه أن ينفق من ماله ، والذي أتاه الله الجاه عليه أن يُنِفِقَ من جاهه ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .
الله عزَّ وجل يناله من العبد النيَّةُ الطيبة التي يسعد بها إلى الأبد :
﴿ وَالْبُدْنَ﴾ .. أيْ الناقة ، مفردها بَدَنَة ، بفتحتين .. ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ أي تقف ، وتربط ، ثم تُنْحَر ، ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي وقعت وسَكَنَتْ ..﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ .. القانع الذي لا يسأل ، والمُعْتَر الذي يتعرَّض للسؤال ، يسأل ، يقول لك : أعطني من مال الله ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا ﴾ .. لن ينال الله ، اسم الجلالة مفعول به مقدَّم منصوب على التعظيم ، أيْ لن ينال لحومها ولا دماؤها الله ، الله عزَّ وجل غنيٌ عن عبادتنا كلها .
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أنَّهُ قالَ : يا عِبَادِي ، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فلا تَظَالَمُوا ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يا عِبَادِي ، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يا عِبَادِي ، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يا عِبَادِي ، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا ، يا عِبَادِي ، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا ، يا عِبَادِي ، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ ، يا عِبَادِي ، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا ، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ . وفي روايةٍ : إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي ، فلا تَظَالَمُوا . ))
[ صحيح مسلم ]
فلذلك : ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ .. الله عزَّ وجل يناله من العبد هذه النيَّةُ الطيبة ، بهذه النية الطيبة يقبل عليه ، بهذه النية الطيبة يسعد بها إلى الأبد .
﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ معناها أنت في الحج قد هُدِيَت إلى الله عزَّ وجل ، وما قولك : " الله أكبر ، الله أكبر " إلا تعبيرٌ عن أنك قد اهتديت إلى الله عزَّ وجل ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين